الحرب الإعلامية النووية- صمت قاتل أم وعي مُسلّح؟

المؤلف: عبداللطيف آل الشيخ08.24.2025
الحرب الإعلامية النووية- صمت قاتل أم وعي مُسلّح؟

لم يعد ميدان الحروب مقتصراً على ساحات القتال التقليدية، حيث الدبابات والطائرات، ولم تعد الغلبة تُحسب بعدد القتلى أو حجم الخسائر المادية. لقد بزغ فجر سلاح جديد، خفيّ، لا يترك أثراً مرئياً، ولا يُعلن عن نفسه بصوت مدوٍ، لكنه مع ذلك، قادر على زعزعة الأنظمة وتغيير القناعات وتشكيل العالم بأسره في هدوء وسكينة.

إنه سلاح ذو فتك بالغ، يتجاوز تأثير الرصاص وقوة المدافع؛ إنه "السلاح الإعلامي الفتاك"، قوة العصر الحديث التي تعتمد على الكلمة والصورة في القتال، وتُحدث الدمار من خلال القصص والروايات.

لم يعد الإعلام مجرد أداة لنقل الحقائق والأخبار، بل تحول إلى ورشة عمل لإنتاج "حقائق" و "أكاذيب" مصممة خصيصاً لتلبية متطلبات اللحظة. لقد ارتقى الإعلام من كونه ناقلاً للأحداث إلى مُهندسٍ للرأي العام، ومن مُكتشفٍ للحقيقة إلى خالقٍ لها.

إن من يمتلك قوة التحكم في الصورة يسيطر على المشاعر، ومن يملك المنبر يفرض رؤيته، ومن يتقن فن التلاعب بالمحتوى، من خلال التقطيع والتعديل والإيحاء، يصبح قادراً على توجيه الجماهير، فيحدد متى تغضب، وكيف تحب، وما الذي يجب أن تؤمن به.

إنها عملية جراحية غاية في الدقة تُجرى على العقل الجمعي، لا تترك وراءها ندوباً ظاهرة للعيان، لكنها تُحدث تشوهات عميقة في الهوية والانتماء.

هذه القنابل لا تُخزّن في مخابئ سرية تحت الأرض، بل تُصنع في استوديوهات مُضاءة بشكل مبهر، وتُطلق من شاشات الأجهزة الذكية التي نحملها في أيدينا لتنفجر في أعماق عقولنا.

قد تراها في ابتسامة مُذيعة جذابة تنشر السم بسحر، أو في تقرير إخباري "موضوعي" ظاهرياً، ولكنه يحمل في طياته ألغام التضليل والخداع.

إنها حرب لا تعترف بالحدود أو الجبهات التقليدية، قد تشنها دولة على دولة أخرى، أو فرد على مجتمعه، أو حتى شاب على نفسه وهو يغرق في بحر المحتوى الرقمي.

إننا لسنا تحت القصف المباشر، بل تحت تأثير "روايات خفية" تسعى إلى تحويلنا إلى مُستعمرين عن طريق قصص مُغلفة بأصوات ودودة وموسيقى جذابة وترجمات بارعة، وذلك لاختراق دفاعاتنا المتينة كمواطنين مُحبين لوطنهم ومُتفانين في حمايته. فالسعوديون يدافعون عن قناعة وولاء وليسوا مجرد موظفين، وإخلاصهم وانتماؤهم هو ما جعلهم هدفاً للأعداء ومن يتبع خطاهم، وذلك بإلصاق تهمة "الوطنجية" بهم، الأمر الذي يدفع البعض للأسف إلى ترديدها دون إدراك أن هذا المصطلح يستخدم كأداة لزرع الفتنة وتشتيت الوحدة الوطنية.

إن حروب الهوية تُشعل نار الفرقة داخل المجتمع الواحد من خلال الروايات المتناحرة والمتضاربة، مما يحول الاختلافات إلى انقسامات عميقة.

السؤال الذي لا يزال يتردد بإلحاح: كم من حصون داخلية للوطن سقطت دون إطلاق رصاصة واحدة؟!

كم من شعب شاهد قناعاته الراسخة تتلاشى وهو مُنبهر ببريق الشاشات؟!

وكم من شاب اعتقد أنه حر في تفكيره، بينما هو في الواقع أسير لخوارزمية مُدعمة، أو لرواية مُعدّة مسبقاً في غرف عمليات إعلامية متطورة؟!

في مواجهة هذا الطوفان الجارف، لم يعد الصدق وحده كافياً كدرع واق، فالخطر لا يكمن فقط في الكذب العلني، بل في "نصف الحقيقة" وفي "التضليل الانتقائي" وفي التلاعب بالعواطف من خلال قصص ظاهرها المنطق وباطنها الزيف. لم يعد مجرد رفض الكذب ضمانة كافية، بل يجب علينا فك رموز الرسالة وتحليل آليات التأثير الخفيّة:

لذا يجب أن نسأل دائماً: من يقف وراء هذا المحتوى؟ وما هو هدفه الحقيقي؟ ومن هو المستفيد؟!

إن صمت المواطن أمام هذا القصف الإعلامي الشرس ليس حياداً نبيلاً، بل هو انتحار تدريجي للعقل الجمعي.

إنها معركة الوجود الفكري التي نخوضها الآن، في هذه اللحظة بالذات، كلما فتحنا هواتفنا، أو شاهدنا نشرة إخبارية، أو شاركنا منشوراً عبر الإنترنت.

إن ساحة المعركة الحقيقية ليست في الميادين العامة، بل في عزلتنا الرقمية، وفي حواراتنا الداخلية على منصات التواصل الاجتماعي، وفي اختياراتنا الواعية لما نستهلكه من أفكار ومعلومات.

في عصر أصبحت فيه الكلمات أسلحة فتاكة، والصور قذائف موجهة، والخوارزميات قادة معارك غير مرئية، فإن امتلاك المناعة النقدية والبوصلة الأخلاقية لم يعد كافياً، بل إما أن نكون صناع وعي مسلحين بالأسلحة الحديثة، أو سنصبح ضحايا لتشكيل وعي الآخرين.

لقد انتهى زمن الاكتفاء بإضاءة شمعة الأمل في ظلام التضليل، أو الاستسلام للانفجار الصامت الذي يمحو هوياتنا ويذرونا رماداً على أنقاض ذواتنا الضائعة.

إنه عصر الحرب الإعلامية الشاملة، والاكتفاء بالأسلحة الإعلامية التقليدية أصبح جزءاً من الماضي في عصر "الإعلام الفتاك".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة